ترمي بشرر ، أحداثاً ربّما أقل ما يقال عنها إنها فضائحية من المنبع إلي المصب

لم يفلح كثيراً عبده خال فيما دونه من أحداث رتيبة علي نحو ما، وخَالها جساماً في روايته ترمي بشرر ، أحداثاً ربّما أقل ما يقال عنها إنها فضائحية من المنبع إلي المصب، المشكلة ليست في تدوين وتأريخ الأحداث الفضائحية / الجنسية بحد ذاتها في متن أدبيّ 
ما، كلا، نحن لا نقصد ذلك تحديداً، فكما إن الكتابة هي الحياة، فالجنس بلا شك ضرورة لاستمرار هذه الحياة، لكن التعامل ـ وكما هو متعارف عليه ـ مع قضايا شائكة من هذا النوع خطير جداً، هي أشبه بعملية أو فعل المشي بين الألغام، بسلامة وحرص تامين، بعد تدريب مكثف وعميق علي التعامل مع تلك الألغام، دون تفجير لغم مثلاً، يطيح بكل العمل المعد له مسبقاً، كي يتكلل تالياً بنجاح منقطع النظير. وتستلزم فوق ذلك ملكات ذهنية وعقلية وإبداعية غير عادية، ومنها، كيف ستوفق مثلاً في انتزاع الدهشة من القارئ أمام عظمة ما كتبت من أحداث.!
لأن تلك الأحداث كانت وما زالت من خصال وطبائع وعادات وتقاليد أشد وأعتي الأمم المتخلفة والمتحضرة. فهي مألوفة إذاً، والفرادة يقيناً تكمن في كتابة تلك الأحداث بطريقة إبداعية مبتكرة أو غير مألوفة. الأمر مختلف هنا تماماً، فتلك الأحداث التي صوّرها لنا الخال، كانت ستكون أكثر أهمية وإنصافاً، لو أنها لم تكن مصطفاة، علي إنها بؤرة الحدث أو الرواية المركزية. كانت ستكون أكثر إنصافاً، لو أنها نأت قليلاً عن تلك المقولة البالية والمستهلكة: " من أين تؤكل الكتف "، هذه المقولة التي حُوِرَت وتحولت بمصادفة قدرية، وبمباركة إعلامية واهية إلي شعار سطحي وممجوج، وهو: " من أين تخطف الجائزة.؟"، فما هو البديل لكل ذلك الكم الكبير والمهول من الفساد والحيف والظلم والجور الذي صدّع به الخال رأس قارئ روايته.؟ لقد قرأنا روايته، ومن حقنا أن نعبر عن وجهة نظرنا، التي لن ترق للخال ومعجبيه وقرائه حتماً.! وللإنصاف، فالرواية علي درجة هامة من التكنيك والاشتغال والفنية في انتقالاتها بين مشهد وآخر، أو جملة وأخري، تغلب عليها مسحة شاعرية وفلسفية علي حدٍّ سواء. متشبعة ومتشعبة بأحداثها وتفرعاتها وخطوطها الجانبية والفرعية والطولية والعرضانية، بمعني.. إنها عمارة روائية متكاملة في هندستها، لكنها لم ترتق إلي المستوي الفكري، أو الموضوعاتي المأمول، لم تمتلك كذلك مبضعاً تشريحياً مقنعاً، وإن بدت في فصول منها مجانبة للصواب والدقة والموضوعية، إذ ما الفرق مثلاً بين قصر السيّد أو أي ملهي علي وجه الأرض.؟ لا فرق إطلاقاً.

مصائر وأقدار
فالملهي يضجّ بكلّ تلك الأجواء التي عرج عليها الخال في روايته تصويراً وتحليلاً وتأويلاً. كأنه في ذروة إبداعه لم يصوّر لنا إلا تلك الأجواء، فساد في القصر، يجلل مفاصل الحياة وأوردتها، ذلك القصر الدهليز والقبو، القصر العنكبوت، قصر القصاص غير العادل، قصر بنات الليل وتصفية الحسابات والإغواء والإثارة، قصر ليس ككل القصور، ممتد في عمقه ومساحته وشره وغروره ومكره وكره وفره.
لم يختلف عبده خال قيد أنملة عن سيّد القصر في إحكام قبضتهما الفولاذية علي رقاب وأرواح الناس، فالأول مستبد وديكتاتور في التمثيل بمن يقطن القصر وبرواده، فيما قمع الخال عن سبق إصرار وترصد ربّما مصائر وأقدار أبطال وشخوص روايته، فلم تتزحزح شخوصه من بين يديه، ولم تستطع البتة مغادرة الدائرة أو مثلث الرعب، علي العكس تماماً، فلم يترك لهم حرية التنقل ورسم أقدارها، يمكن القول إنه تعسف في استعمال حقه أيضاً، إذ جعل منهم أداة تحكم يتحكم بها كيفما ومتي ما شاء، زَجَّ بهم في مستنقع آسن، أفقدهم فيه طريق الخلاص، لم يكتف بكل ذلك، بل قادهم إلي الخيانة والضياع والجنون والاستلاب، ثمّ قام بمعاقبتهم، ناهيك عن التنكيل بهم، بعد أن شتتهم وقطع بهم السبل، يقتصّ طارق فاضل من عمته خيرية بطريقة لم تسبقه إليها أشد الأفلام الهوليودية دموية وقسوة. طارق هذا الذي كتب في الإهداء: " التلويحة شارة للبعد، للغياب. و(هنو) لم ترفع يدها أبداً.. فأي خيانة اقترفتها حينما لم تلوح من بعد؟! لها، ولبقية من عصفت بهم في طريقي، ينداح هذا البوح القذر." تلك تقنية روائية باتت رائجة هذه الأيام، موضة من موضات الرواية العربية مؤخراً، توقيع الروائي للإهداء باسم من أسماء شخوص روايته، لعبة لمخاتلة القارئ لا أكثر ولا أقل، أو الإيهام الروائي وفق مصطلح نقدي، مستورد ربّما. ثمّ إن البوح القذر وحده لا يجعل من عملٍ ما، مهما كانت قوته وفرادته وغرابته، عملاً مستوفياً لأركان وعناصر الدهشة والإثارة، التي تتطلبها مختلف الفنون والأجناس الأدبية، المتعارف علي تصنيفها حتي اليوم.
كان حرياً بالخال ترك المساحة لخيال القارئ لتأويل وتحليل أحداث روايته. نَابَ عن القارئ حتي في هذا الأمر، وكأني به يقول لقارئه: "لا تتعب نفسك وخيالك أيها القارئ، العملية بسيطة جداً، اقرأ الرواية وحسب، لكن ابتعد عن الاستنتاجات التي لا طائل من ورائها...! " أمر كهذا مربك وممرض علي حدٍّ سواء، القارئ ليس غبياً إلي هذه الدرجة، إنه شريك حيّ وواع لأركان وعناصر العملية الإبداعية، له ذائقته المتفردة التي تفرض علي أكبر وأشهر الروائيين والكُتَّاب احترامها ومراعاتها غبّ كتابة عمل إبداعيّ ما. الشذوذ واللواطي والسفاح والزني، ليست عناصر كافية لإنجاح وفرادة عمل أدبيّ ما، ليست معايير دقيقة لبراعة أدوات الكاتب، تلك مواضيع متفجرة في أُسّها، وساخنة أساساً، لكنها لم تكن لتتطلب كلّ ذلك العناء والإسراف والتبذير الكتابي المُبَالغ به. لوي التابو من عنقه، بالخروج والولوج إلي قمقمه، لم يكن صكاً، ومعياراً أوحد. الرواية عالم بحد ذاته، مَشَاهِد خارجية، وأخري داخلية، دون أن ننسي المتضادات، فالخير يقابله الشر، كذلك الأمر مع الحب والكره، ناهيك عن الحرب والسلم، مروراً بالمقدس والمدنس. الجانب المعتم لا يعول عليه دائماً. السيّد المتفرد في سلطانه وهيلمانه وجبروته، إذا لم تستطع مواجهته، تواري عن الأنظار، لا تحتك به. ارسم لبعض شخوصك خطاً آخر، مصيراً مختلفاً، لا تجعل شخوصك جميعاً يخضعون للأقدار ذاتها. إبراهيم فاضل فعلها، واكتسب تعاطفنا، بل إن إبراهيم فاضل هذا يكاد يكون نقطة النور أو الضوء الوحيدة في هذا العمل الملحمي الطويل جداً، الذي قارب الأربعمئة صفحة، وكان من الممكن اختصاره إلي المئتين صفحة علي أقل تقدير، كان ذلك سيكون أرحم من كل ذلك الحشو والتكرار اللذين إن دل علي شيء، فإنما يدل علي عدم وثوق الخال وكذلك عدم تيقنه من ذكاء القارئ.
شخصيات كثيرة، بائسة وخانعة، ذليلة ـ مرام مثالاً ـ وهي في ذروة تمردها وشبقها، ولا عمل لها، تلهث وراء المال والجاه والسلطة، مهما كان الثمن، تهون الكرامة وعزة النفس، تنزلق إلي قعر الدرك مهما كان سحيقاً، كي تحظي بنظرة رضي من طرف سيّد القصر، الذي لا همّ له سوي إقامة الحفلات الصاخبة والماجنة، ناهيك عن تأديب خصومه والمتربصين به ببعض الشخصيات التي تعمل ككلاب حراسة علي خدمته، وبإشارة واحدة تنقض تلك الشخصيات ـ ممثلة بـ طارق فاضل وعيسي الرديني وأسامة ـ علي أولئك الخصوم، بإيلاج أسلحتهم وأسيافهم المتأهبة دوماً لتخترق صمام الشرف لديهم في مشهد فضائحي وعملية مقززة أو مباراة ممجموجة للتأوهات والويلات.
لم يكن ثمة داع إطلاقاً لفصل البرزخ الذي فضح فيه الخال أبطال عمله، بذكر أسماءهم الحقيقية، مرفقة بصورهم، وكأنه يقدم لنا سبقاً أو تحقيقاً صحفياً، وبما إنه كان حريصاً علي ذكره لأسمائهم الحقيقية، كان الأولي به ذكر تلك الأسماء في متن الرواية، أقصد.. إن فصل البرزخ لم يحدث الأثر الذي كان يتصوره الخال في نفوس القراء.
هل بيّتَ الخال لكتابة هذا العمل علي النحو الذي قدمه لنا.؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فما هو الدافع.؟ هل هو مقاييس ومعايير جوائزنا العصرية مثلاً.؟ لكن مهلاً، الجواب المبتغي أظنه موجوداً في الرواية ذاتها، ففي فصل البرزخ ذاته، تحت عنوان: " مقطع من جلسة.. سبقت كتابة هذا السرد" ص 385، وبينما كان الخال في أوج غضبه، من ابنه المصاب بمرض الربو، تقدم منه أحد المتنزهين، وطلب منه أن يسمع منه قصة حياته، كي يكتبها بعد ذلك. فاعتذر الخال منه، متحججاً بأن الوقت غير ملائم، يقول الخال:
" فأراد ـ أي ذلك الشخص ـ تقديم المقبلات الشهية لجذبي لحكايته، فمال لأذني:
ـ أنا لوطي.!
هذه هي الرصاصة التي تنطلق محدثة الدهشة والرغبة الملحة لمعرفة ما حدث:
ـ هل سمعت، أنا لوطي بل أكثر رداءة مما تتصور.
لتتسع شهيتي في سماع حكايته، وجلسنا."
هكذا، وبهذه البساطة، تستمد الرواية العربية العصرية أهميتها القصوي من أحداث متمردة، فقيرة ومقهورة وبائسة، لا تشكل مقياساً للإبداع، وإن فازت بأكبر وأشهر الجوائز، حتي ولو كانت جائزة البوكر في نسختها العربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.